نزول المسيح عليه الصلاة والسلام من السماء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعـد
*- ومن علامات الساعة الكبرى نزول المسيح عليه الصلاة والسلام من السماء وقبل أن نبدأ الحديث عن عيسى r وعن وصفه والأعمال التي يقوم بها بعد نزوله، لذلك لا بد من أن نشير إلى الأدلة في الكتاب والسنة التي تثبت نزول عيسى r وتدحض كثيراً من أقوال المتشدقين والمجادلين الذين لا يرون نزول عيسى r من السماء حقيقة واقعة لا محالة، وقد أشرنا في مقدمة هذه الحلقات إلى تأويل بعض أولئك لنزول عيسى r بأنه رمز معنوي للخير والعطاء والهداية إلى غير ذلك - أي يكون نزولاً معنوياً وليس حسِّياً حقيقياً -، بل وصل الحال بالبعض إلى أن ذهبوا بالقول أبعد من ذلك حيث قالوا: هل بقي عيسى r حياً؟ وسينزل إلى الأرض ليجدد دعوة دين الله بنفسه؟ أم المراد بنزول عيسى هوانتصار دين الحق، وانتشاره من جديد على أيدٍ مخلصة تعمل على تخليص المجتمع الإنساني من الشرور والأثام؟ إلى غير ذلك، فإليك أخي في الله نقض هذا وذاك بأدلة البيان من الكتاب والسنة والله المستعان.
أولاً قال تعالى: ) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ([1]. قال ابن كثير في تفسيره: المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: )وهوالذي يتوفاكم بالليل( الآية وقال تعالى: )الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها( الآية وكان رسول الله r يقول إذا قام من النوم: {الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور} [2].وقال تعالى: )وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ( ، إلى قوله: )َمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً( (النساء من الآية 156 إلى 159).
والضمير في قوله: {قبل موته} عائد على عيسى r أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام أوالقتل، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن أنس عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: {إني متوفيك} يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه.
وهذا امتحان الله لعباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحة فقال تعالى وهوأصدق القائلين ورب العالمين المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السموات والأرض، العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لوكان كيف كان يكون
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( أي رأوا شبهه فظنوه إياه، وجاء عن ابن عباس في تفسير هذه الآية نحومن هذا وهو:
أنه لما تيقن عيسى عليه السلام أن بني يهود أتوْا لقتله، وكان في بيت ما من إحدى البيوت، وكان معه بعض أصحابه الحوارين، قال لهم عيسى عليه السلام : (من يجلس في مكاني فيلقي الله عليه شبهي ويكون رفيقي في الجنة؟) فبادر لذلك شاب منهم، ورفع الله تعالى عيسى إليه، فدخل المجرمون من بني يهود، فقتلوا ذلك الشاب وصلبوه، ووضعوا على رأسه الشوك وطافوا به إلى غير ذلك، فشاع الخبر بين الناس أن المسيح عليه السلام قد قتل ثم صلب.
ولهذا قال تعالى: )وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ( يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود، ومن سلمه إليهم من جهل النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر. أورده ابن كثير في تفسيره (2/449) 0
وفي هذه المناسبة أود أن أذكر هذه الأبيات كتبها بعض أهل العلم الأجلاء، ردَّاً على زعم النصارى أن المسيح هوابن الله، وأنَّ الله تعالى أنزله إلى الأرض ليفدي خطايا الناس بدمه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، وأنَّ اليهود قد قتلوه ثم صلبوه، وإليك أخي المسلم هذه الأبيات:
عجبا للمسيح بين النصارى وإلى الله ولدا نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا إنهم من بعد قتله صلبوه
فلئن كان ما يقولون حقا وصحيحا فأين كان أبوه
حين خلى ابنه رهين الأعادي أتراهم أرضوه أم أغضبوه
فإذا كان راضيا بأذاهم فاشكروهم لأجـل ما صنعوه
وإذا كان ساخطا غير راضٍ فاعبدوهـم لأنهّــم غلبوه
وقال آخر
يا عُبَّاد المسيح لنا سؤالٌ نريد جواباً ممن وعاه
إن مات الإلــه بصنع قومٍ أماتوه فهل هذا إلـــه
ويا عجباً لقبرٍِ ضمَّ رباً وأعجب منه قبرٌ وعاه
فقام هناك تسعاً من الشهور من دم حيضٍ غزَّاه
ثمَّ شقَّ الفرج مولودٌ ضعيفٌ فاتحٌ للثدي فاه
يأكل ويشرب ثم يأتي بلازم ذاك فهل هذا إلـــه
تعالى الله عن إفك النصارى سَيُساَل كلهم عما افتراه
قال تعالى: )وما قتلوه يقينا( أي وما قتلوه متيقنين أنه هو، بل شاكين متوهمين )بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا( أي منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه )حكيم( أي في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والأمر القديم )وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ( أي برفعي إياك إلى السماء )وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ(.
وقوله تعالى: )وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ( معنى ذلك )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( يعني قبل موت عيسى يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال فتصير الملل كلها واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم # .
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار عن ابن عباس )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( قال: قبل موت عيسى بن مريم # وقال العوفي عن ابن عباس مثل ذلك، وقال أبومالك في قوله: )إلا ليؤمنن به قبل موته( قال: ذلك عند نزول عيسى قبل موت عيسى ابن مريم عليه السلام لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به. وقال ابن جرير عن الحسن: )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( قال: قبل موت عيسى والله إنه لحي الآن عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون.
وقال ابن أبي حاتم: قيل للحسن: يا أبا سعيد ما تقول في قول الله عز وجل )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته(؟ قال: قبل موت عيسى، إن الله رفع إليه عيسى وهوباعثه قبل يوم القيامة، مقاما يؤمن به البر والفاجر، وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد، وهذا القول هوالحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع، إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
ثانياً: جاء من قوله تعالى في محكم تنزيله: ) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُومَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوإِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ * وَلَونَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ*وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ([3].
وقوله تعالى )وإنه لعلم للساعة( جاء في تفسير القرآن العظيم لابن كثير(2/47) قوله: أي هذا عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام فإن السياق في ذكره ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة كما قال تبارك وتعالى: )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( أي قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام )ثم يوم القيامة يكون عليهم شهيدا( ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى: {وإنه لعَلَمٌ للساعة} أي أمارة ودليل على وقوع الساعة، قال مجاهد: )وإنه لعلم للساعة ( أي آية للساعة خروج عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قبل يوم القيامة.
وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله r أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا.
وقوله تعالى: )فلا تمترن بها( أي لا تشكُّوا فيها إنها واقعة وكائنة لا محالة )واتبعون( أي فيما أخبركم به )هذا صراط مستقيم(.
وجاء عن الشنقيطي رحمه الله قوله: وإيضاح هذا أن الله تعالى قال: )وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ( ثم قال تعالى: )وَمَا قَتَلُوهُ( أي عيسى، )وَمَا صَلَبُوهُ( أي عيسى )وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ( أي عيسى )وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ( أي عيسى، )لَفِي شَكٍّ مِنْهُ(أي عيسى، )مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ( أي عيسى )وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً( أي عيسى، )بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ( أي عيسى، )وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلأ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ( أي عيسى، ) قَبْلَ مَوْتِهِ( أي عيسى، )وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً( أي يكون عيسى عليهم شهيداً.وكذلك في قوله تعالى: )وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ(، )وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ( أي عيسى ابن مريم وهذه الآية عائدة على ما قبلها )مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلأ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ([4]، )إِنْ هُو( أي عيسى، )إِلأ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ( أي أنعم الله تعالى على عيسى وهي الرسالة والمعجزات )وَجَعَلْنَاهُ( أي عيسى،) مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ([5]،) وَإِنَّهُ( أي عيسى، )لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ( أي عيسى إنه من علامات الساعة )فلا تَمْتَرُنَّ بِهَا ([6].
ثالثاً: قال تعالى: )وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ([7]، أي عيسى بن مريم حيث جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: )إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ([8].
جاء هنا تفسيران أومعنيان لأهل العلم لكلمة - كهل - كما جاء في تفسير القرآن للقرطبي، فمنهم من قال: يكلم الناس في المهد (آية) ويكلمهم كهلاً (بالوحي والرسالة) آية أخرى.
ومنهم من قال: كلمهم في المهد وقد حدث، وسيكلمهم وهوكهل وهذا بعد نزوله بأمر الله تعالى من السماء، كما قال أبوالعباس: كلمهم في المهد حين برَّ أمه فقال: {إني عبد الله} وأما كلامه وهوكهل فإذا أنزله الله تعالى من السماء؛ أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهوالكهل فيقول لهم: {إني عبد الله} كما قال وهوفي المهد[9]، قال النحاس: إنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين (انظر تفسير القرطبي 4/ 91).
فبهذا يتبين لنا أن عيسى # كلَّم الناس وهوفي المهد، ولكن لم يكلمهم وهوكهل وخاصة بعد ما علمنا من علماء اللغة كما قال النحاس أن الكهل ما بلغ الأربعين، وما كان فوق ذلك. وقد ثبت في السنة عن أنس قال: قال رسول الله r لأبي بكر وعمر: {هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي} [10].
ومعنى الحديث: أنهما أي أبا بكر وعمر كانا خيرا كهلين وجدا على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين، فهما في الجنة كذلك، علماً أن أعمار أهل الجنة في سن ثلاثٍ وثلاثين لا يتجاوزه، لقوله عليه الصلاة والسلام: {يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا كأنهم مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين} [11]. ولكن كناية على ما كانا عليه في الأرض من العمر, والله أعلم.
ومن المعلوم عند علماء التفسير أن عيسى عليه السلام رفع إلى السماء وهوابن ثلاث وثلاثين سنة، وينزل من السماء إلى الأرض وهو في هذا العمر.
وقد يسأل البعض: كيف رفع وهوابن ثلاث وثلاثين وينزل وهوفي نفس العمر ابن ثلاث وثلاثين؟ نقول:
أولاً: إن الأمر كله بيد الله تعالى فله الأمر من قبل ومن بعد.
ثانياً: إن السماء وما فيها من مخلوقات الله تعالى لا يجري عامل الزمن عليها كما هوالحال على الأرض، حيث إن الشمس والقمر اللذين جعلهما الله تعالى سبباً لمعرفة عدد السنين والحساب في هذا الكون وما فيه من أراض ٍ وكواكب وكل ذلك في ما دون السماء الدنيا، فعامل الزمن إذاً في السماوات مختلف عن عامل الزمن في الأرض وما شابهها من الكواكب، قال تعالى: )وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ([12]. وقد ثبت في السنة أن عيسى عليه السلام في السماء الثانية، كما صح ذلك عن الحبيب المصطفى r في قصة الإسراء والمعراج في حديث طويل نذكر منه: {… ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة: عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير; …}[13].
وهنا يحضرني حديث للحبيب المصطفى r يبين فيه أن الله تعالى حفظ عيسى عليه السلام من أن يدخل فيه القرين – أي قرين الشيطان والذي لم ينج منه أحد حتى رسول الله r كما ثبت عن عائشة، قال لها رسول الله r: {أغرت} قالت: وما لمثلي لا يغار على مثلك. فقال لها رسول الله r: {لقد جاءك شيطانك} قالت: أومعي شيطاني؟ قال: {ليس أحد إلا ومعه شيطان} قالت: ومعك؟ قال: {نعم ولكن أعانني الله عليه فأسلم} رواه مسلم عن عائشة ، وقد يكون ذلك عائدا لما قدره الله تعالى على عيسى بن مريم أن سيلبث فترة من الزمن يسكن فيها السماء والله أعلم، حيث قال r: {كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب}[14].
أوقد يكون أصابته مع أمه دعوة ابنة عمران وهي أم مريم عندما دعت الله تعالى أن يحصنها ويحفظها من الشيطان الرجيم كما أخبرنا الله تعالى بذلك: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [15]. فاستجاب الله تعالى لدعائها كما جاء في حديثه عليه الصلاة والسلام {ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه} [16]. والله أعلى وأعلم.
رابعاً: لقد جاءت أحاديث النبي r التي وصلت حد التواتر والتي يشير فيها عليه الصلاة والسلام إلى نزول عيسى بن مريم عليه السلام آخر الزمان من السماء إلى الأرض، ويعيش فيها سنين عديدة بعد أن يقتل عدوالله الدجال ويتزوج ويحج البيت إلى غير ذلك.
وإليك أخي القارئ بعض هذه الأحاديث , فعن أبي هريرة عن النبي r قال: {لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم حكما مقسطا وإماما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد} [17].
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله r: {والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم، حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها}. ثم يقول أبوهريرة: فاقرؤا إن شئتم ) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته(}[18].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (عون المعبود –خروج الدجال 9/361): فلا يخفى على كل منصف أن نزول عيسى بن مريم عليه السلام إلى الأرض حكما مقسطا بذاته الشريفة ثابت بالأحاديث الصحيحة والسنة المطهرة واتفاق أهل السنة، وأنه الآن حي في السماء لم يمت بيقين. وأما ثبوته من الكتاب فقال الله عز وجل ردا على اليهود المغضوب عليهم الزاعمين أنهم قتلوا عيسى بن مريم عليه السلام : )وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه ( ففي هذه الآية الكريمة أخبرنا الله تعالى أن الذي أراد اليهود قتله وأخذه، هوعيسى بجسمه العنصري لا غير، رفعه الله إليه ولم يظفروا منه بشيء كما وعده الله تعالى قبل رفعه بقوله: ) وما يضرونك من شيء( وبرفع جسده حيا فسره ابن عباس كما ثبت عنه بإسناد صحيح.
فثبت بهذا أن عيسى عليه السلام رفع حيا ويدل على ما ذكرناه الأحاديث الصحيحة المتواترة المذكورة , المصرحة بنزوله بذاته الشريفة , التي لا تحتمل التأويل. فثبت أن عيسى عليه السلام لم يمت بل يموت في آخر الزمان ويؤمن به كل أهل الكتاب. , وقد تواترت الأخبار عن رسول الله r أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا.. انتهى.
فهذه الآيات الكريمة والنصوص الصحيحة الثابتة عن رسول الله r تدل دلالة واضحة على نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء إلى الأرض عند قرب الساعة ولا ينكر نزوله إلا ضال مضل معاند للشرع مخالف لكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أهل السنة، انتهى كلامه رحمه الله.
* وقد جاء وصف المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام على لسان الحبيب المصطفى r، فبين صفة خلقه، ومتى ينزل وما وسيلة المواصلات لنزوله أوبمعنى أصح هبوطه من السماء، وعن هيئته حين نزوله وأين أول محطة لنزوله، مما لا يدع لأحد الحجة أن يستدرك بشيء تبليغ ما أوحى الله إليه، ومما يقطع به شك المتشككين ممن أعمى الله بصرهم وبصيرتهم عن هذا الحق المبين.
فقد جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام: {الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، أي دين التوحيد - وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه؛ رجل مربوع، إلى الحمرة والبياض، …}2
وقال أيضاً: عليه الصلاة والسلام: {.. ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل،..} [19]،.
وجاء أيضاً من قولهr: {ليلة أسري بي رأيت موسى وإذا هورجل ضرب كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى فإذا هورجل ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس …}[20].
وجاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: {أَرَانِي لَيْلَةً عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ اللِّمَمِ، قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَوعَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}[21]. وشبَّهه النبي r بأحد أصحابه وهوعروة بن مسعود.
* وأما وسيلة هبوطه من السماء فتكون بأمر الله تعالى بواسطة ملكين من ملائكته سبحانه، وأول محطة وصول له عليه السلام هي المنارة البيضاء شرقي دمشق. وزمن هبوطه من السماء يكون في الوقت الذي أمضى الدجال لعنه الله تعالى في الأرض مدة الأربعين يوماً التي منحه الله تعالى إياها بعد خروجه من مكان حبسه – وهي كما بينا سابقاً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وباقي الأيام تكون على هيئتها الحالية.
قال r: {… فبينما هوكذلك – أي المسيح الدجال عليه لعنة الله - إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين، واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذ طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ …}[22].
فعيسى عليه السلام رجل شاب مربوع أي بين الطويل والقصير، أبيض مع احمرار ممزوج في البياض، وهذا من جمال الخلقة، حيث وصفه النبي r كأحسن ما أنت راءٍ من أُدْمِ الرجال، سبط الشعر أي ناعم الشعر يقطر بالماء له لمة – أي شعره ناعم مضروب على الكتفين – قد رجَّلَه – أي سرَّحه - وكأنه خارج من حمام، إذا طأطأ رأسه قطر منه الماء، وإذا رفعه تحدَّر منه حبات كاللؤلؤ، ينزل لابساً ثوبين؛ إزارا ورداء مصبوغين (بين مهرودتين) قال النووي: معناه لابس مهرودتين: أي ثوبين مصبوغين بورس, ثم بزعفران. وقيل هما شقتان , والشقة نصف الملاءة. (ممصرتين) - الممصرة من الثياب- التي فيها صفرة خفيفة , واضعا يده على أجنحة ملكين، أول نزول له يكون شرقي دمشق عند المنارة البيضاء، قال النووي: هذه المنارة موجود اليوم شرقي دمشق. ويكون هناك معسكر للمسلمين على رأسهم المهدي، والله أعلم يكون ذلك المعسكر في منطقة الغوطة، حيث ذلك المكان كان عبارة عن معسكر للقيادة الإسلامية أثناء المعارك التي خاضتها جيوش المهدي ضد أعدائها أمثال الروم وغيرهم، وعندما يخرج الدجال عليه اللعنة، تعود بعض تلك الجيوش إلى الغوطة والبعض الآخر إلى بيت المقدس وجبل الطور، لعلمهم اليقين أنه لا قبل لأحد على قتال الدجال وقتله إلا المسيح ابن مريم عليه السلام، وذلك كما أخبر عنه الحبيب المصطفى r في الأحاديث التي سنذكرها إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة.
روى أبوداود عن مكحول، أن رسول الله r قال: {موضع فسطاط المسلمين في الملاحم أرض يقال لها: الغوطة} [23].
وجاء في الحديث عن أبي الدرداء t أنه سمع رسول الله r يقول: {في الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها: الغوطة فيها مدينة يقال لها: دمشق خير منازل المسلمين يومئذ}[24].
فيكون وقت نزوله عند الفجر، تحديداً بعد الإقامة لصلاة الفجر، وبعد أن يتقدم المهدي عليه السلام ليؤم القوم وقد كبَّر للصلاة، وإذا به يسمع أصواتا تنبعث من خلفه، وتبشر بنزول نبي الله عيسى عليه السلام من السماء، وأنه أصبح بين أظهرهم وهوعلى الوصف الذي وصفه به رسول الله rكما بيَّنا ذلك آنفا، فيرجع المهدي إلى الوراء مقدِّماً المسيح عليه السلام ليؤم هوبالنَّاس، فيأبى ذلك ويضع يده على كتف المهدي ويقول: أنت صلِّ بالناس، ثم لما ينتهي المؤمنون من صلاتهم ينهضون قياماً، ويسلِّمون على نبي الله عليه السلام ، ويبلِّغونه السلام من الرسول r تنفيذاً لوصيته عليه الصلاة والسلام، والتي وصَّى بها أصحابه حيث قال: {من أدرك منكم عيسى ابن مريم، فليقرئه مني السلام} [25]. وبهذا أخبر الحبيب المصطفى r فقال: {.. وإمامهم رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح؛ إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له: تقدم فصل فإنها لك أقيمت. فيصلي بهم إمامهم …} رواه ابن ماجه عن أبي أمامة وهوفي صحيح الجامع, .
وجاء أيضاً من قوله r: {لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا،إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة}. رواه مسلم عن جابر
وعن أبي هريرة قا ل: قال رسول الله r: {كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم}[26].
وجاء أيضاً عند مسلم: {كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم}، وفي رواية: {منكم}؟، فرجع ذلك الإمام ينكص- يمشي القهقرى – ليتقدم عيسى، فيقول: تعال صل لنا، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: {لا؛ إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله هذه الأمة}، تقدم فصل، فيصلي بهم إمامهم.
قال الحافظ في الفتح: وجاء عند أحمد أيضاً من حديث جابر في قصة الدجال ونزول عيسى: {وإذا هم بعيسى, فيقال تقدم يا روح الله , فيقول: (ليتقدم إمامكم فليصل بكم} وقال أبوالحسن الخَسْعِيّ الآبِدِيّ في مناقب الشافعي: تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة، وأن عيسى يصلي خلفه، حدثنا الجوزقي عن بعض المتقدمين قال: معنى قوله: {وإمامكم منكم} يعني أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل. وقال ابن التين: معنى قوله: {وإمامكم منكم} أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة, وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم، وهذا والذي قبله لا يبين كون عيسى إذا نزل يكون إماما أومأموما, وعلى تقدير أن يكون عيسى إماما فمعناه أنه يصير معكم بالجماعة من هذه الأمة.
قال الطيبي: المعنى؛ يؤمكم عيسى حال كونه في دينكم. ويعكر عليه قوله في حديث آخر عند مسلم - فيقال له: {صل لنا, فيقول: لا, إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة لهذه الأمة} وقال ابن الجوزي: لوتقدم عيسى إماما لوقع في النفس إشكال ولقيل: أتراه تقدم نائبا أومبتدئا شرعا , فصلى مأموما لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله r: {لا نبي بعدي}. انظر الفتح ((10/251).
والصحيح بين هذا وذاك (أن عيسى عليه الصلاة والسلام في حال أول نزول له عند المنارة البيضاء شرقي دمشق عند صلاة الفجر، يكون مأموماً وليس إماماً، كما صح الخبر من الأحاديث الصحيحة التي أوردناها آنفاً، ثم بعد ذلك لما يتحول إلى فلسطين تحديداً إلى بيت المقدس، وهي المحطة الثانية له، بعد نزوله عليه الصلاة والسلام شرق دمشق، كذلك يكون عند صلاة الفجر، فيكون هوالإمام، وبذلك يكون قد انتهى الإشكال إن شاء الله تعالى.
وقبل أن أنتقل بكم للحديث عن المحطة الثانية لنزوله عليه الصلاة والسلام، فلي مداخلة هنا لا بد منها وهي: من المعلوم من الضرورة في التوحيد أن أعظم ركن في الإسلام هي هذه الكلمة الطيبة: (أشهد أن لا إلـه إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)، المعنى في الشطر الأول من الكلمة: أن لا معبود بحق إلا الله، ولا نعبد إلا الله، ولا نعبد الله إلا بما شرع الله، نفهم من هذا أن الأمر من قبل ومن بعد كله لله تعالى، ولا يكون العبد عبداً بحق لله تعالى إلا إذا تقيد والتزم بكل أوامر الله تعالى، وهذا عيسى عليه الصلاة والسلام كان مثال العبد المخلص والملتزم والمتقيد بأوامر سيده سبحانه وتعالى، خلقه الله سبحانه وتعالى من أمه العذراء البتول بكلمة منه فكان من أم دون أب، بمشيئة الله تعالى، وأوصاه سبحانه بهذه الوصية، والتي نطق بها من أول يوم من ولادته بأمر الله تعالى، فقال أول ما نطق: )قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ( وهذه وصية الله له: )وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}. وقال: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ([27]. ثم لما شب وبلغ رشده، أوحى الله إليه ومنَّ عليه بالنبوة، وبعثه برسالة سماوية وهي الإنجيل إلى بني إسرائيل، فكان عليه السلام من الخمسة الأفاضل من أولي العزم من الرسل، وهم: ((نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد)) صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ثم لما ينزله الله تعالى إلى الأرض بعد أن رفعه إليه، تتمثل العبودية عنده لله تعالى حينما يصلي مؤموماً خلف رجل من أمة محمد r، وهوفي المكانة التي ذكرناها آنفاً.
وهنا الشاهد من هذه المداخلة، وهو: تكبُّر بعض الناس من هذه الأمة المحمدية من أخذ العلم ممن هم أعلم منهم، وكذلك من الصلاة خلفهم وإن كانوا أقرأ لكتاب الله منهم، وكذلك التعصب لآرائهم وإعجابهم بأنفسهم واتباعهم الهوى، وهذا كله ما كان ليكون لوأنهم قاموا بأداء دورهم بأنهم عباد حق لله تعالى، وأنهم لم يقدموا بين يدي الله ورسوله (قولاً ولا فعلاً) وكانوا ممن قال فيهم الحق جلَّ وعلا في علاه: )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ([28]، وقوله تعالى: )إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ([29]، وقوله تعالى: )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً([30].
* ذكرنا فيما مضى من قصة الدجال لعنه الله أنه وكما قال r: {لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه؛ إلا مكة والمدينة} ، وأنه أيضاً: {لا يأتيهما من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة} . ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام، تحديداً جبل القدس كما جاء في الحديث: {ثم يأتي جبل إيليا، فيحاصر عصابة من المسلمين "[31]. وهناك {فيلقى المؤمنون شدة شديدة، فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ قال: {هم يومئذ قليل}[32].
وفي رواية أخرى أيضاً صحيحة من قوله r: {ثم يأتي الدجال جبل (إيلياء)، فيحاصر عصابة من المسلمين، فيقول لهم الذين عليهم: ما تنتظرون بهذا الطاغية [إلا] أن تقاتلوه حتى تلحقوا بالله، أويفتح لكم، فيأتمرون أن يقاتلوه إذا أصبحوا، فبينما هم يعدون للقتال، ويسوون الصفوف؛ إذ أقيمت الصلاة - صلاة الصبح -، فيصبحون ومعهم عيسى ابن مريم، فيؤم الناس، فإذا رفع رأسه من ركعته قال: سمع الله لمن حمده، قتل الله المسيح الدجال، وظهر المسلمون} رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير علي ابن المنذر وهوثقة، عن أبي هريرة وصححه الألباني، انظر قصة الدجال (144) .
ذكرنا سابقاً أن المسيح عليه السلام أول ما ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وهناك يصلي مأموماً خلف المهدي، ثم يتحول هوومن معه من جيش المؤمنين على رأسهم المهدي إلى العصابة المُحاصَرَة من المسلمين من قبل الدجال والذين هم في بيت المقدس، فَيُقَدَّم عيسى عليه السلام للإمامة، فيصلي بهم فلما يرفع رأسه من الركوع – والله أعلم أن ذلك في الركعة الثانية، حيث صح عن النبي r {القنوت في الفجر، في حال نزل نازلة بالمسلمين، في الركعة الثانية من الفجر، بعد رفعه من الركوع، وقوله سمع الله لمن حمده، (فيكون قول عيسى عليه الصلاة والسلام): قتل الله المسيح الدجال وظهر المسلمون}، هوعبارة عن دعاء نازلة وبشرى من الله تعالى في الوقت نفسه، فإذا انصرف قال: {افتحوا الباب. فيفتح، ووراءه الدجال – أي خلف أبواب بيت المقدس - معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذوسيف محلى وساج، - فيطلبه عيسى عليه الصلاة والسلام-، - فيذهب عيسى بحربته نحوالدجال -، فإذا نظر إليه الدجال، ذاب كما يذوب الملح في الماء، - فلوتركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريه دمه في حربته}، قال أبوحازم: قال أبوهريرة: (فيذوب كما تذوب الإهالة في الشمس) الإهالة هي: السمن أوالدهن أو ما يذوب من الألْية -، وقال عبد الله بن عمرو: كما يذوب الملح في الماء).
وأرى كأنه مادية هلامية أوكالحيوان داخل الحلزونة؛ إذا وضع عليه الملح يبدأ بالذوبان، فلما ينطلق عدوالله هارباً، يقول له عيسى عليه السلام : إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب اللُّدِّ الشرقي، فيقتله (فيهلكه الله عز وجل عند عقبة أفيق)، فعندما يسمع اليهود بمقتل مخلِّصهم المزعوم، ويأتي عيسى عليه السلام بدمه على حربته ويراها المؤمنون، فيصيحون بالتكبير والتهليل، فعند ذلك يأتي الوقت الذي يتخلص فيه المؤمنون من آخر شرذمة من اليهود، ليريحوا العباد والبلاد من نتنهم، بل ويُسخِّر الله تعالى كل شيء للقتال مع عباد الله المسلمين، حتى الحجر والشجر والدواب ينطقهم الله جميعاً، يصيحون بأعلى صوت: {يا مسلم يا عبد الله، فإن هناك خلفي يهودي تعال فاقتله}، فيكون ذلك المسلم المجاهد في أمان بعلمه ويقينه بربه سبحانه وتعالى؛ بأنه سخر له كل حجر وشجر، وحائط ودابة، أن يخبروه عن كل يهودي مختبئ خلفهم، بهذا نطق الحبيب المصطفى r.
ولكن تبقى هناك شجرة خبيثة من شجر اللئام، من إخوان القردة والخنازير، لا تنطق بشيء، وهي شجرة (الغَرْقَد)، والتي أخبر عنها الصادق المصدوق أنها من شجر اليهود، فيعمد إليها ذلك المؤمن الذي آمن بكل ما أخبر به الحبيب المصطفى r من الأمور الغيبية متيقناً أن خلفها يهودي، فينقلب السحر على الساحر كما يقال، فبدلاً من أن تكون تلك الشجرة ملجأ لأولئك الخنازير الأنجاس فإذا هي تصبح أكبر علامة لملجئهم ومخبئهم، ليس باختيارها ولا بإرادة منها، ولكن رغم أنفها، وذلك بفضل الله ورحمته على عباده المؤمنين، الذين استجابوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم، فكان النصرُ المؤزرُ حليفَهم في الدنيا، والفوز بالجنان حليفَهم في الآخرة، لما رواه أحمد والنسائي عن ثوبان t أن النبي r قال: {عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزوالهند، وعصابة تكون مع عيسى بن مريم عليه السلام } قال الألباني صحيح، انظر صحيح الجامع (7459).
وجاء أيضاً من حديث النواس بن سمعان t أنه قال: قال رسول الله r: {…فيطلبه - أي عيسى عليه السلام ، يطلب الدجال - حتى يدركه بباب (لُدٍّ) فيقتله، ثم يأتي عيسى ابنَ مريم قومٌ قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة}[33].
وإليك أخي المسلم الأحاديث التي وردت في قتال اليهود:
روى مسلم عن أبي هريرة t أن النبي r قال: {لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أوالشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود} .
قد يقول قائل: إن هذا الحديث عام بقتال اليهود، لم يأت فيه تخصيص إن ذلك في زمن المهدي والمسيح عيسى بن مريم عليه السلام كما أسلفت ذكره، نرد عليه بهذا الحديث وهو:
قوله عليه الصلاة والسلام: {… فيدركه عند باب لد الشرقي فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به يهودي؛ إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا حجر ولا شجر، ولا حائط ولا دابة؛ إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق؛ إلا قال: يا عبد الله المسلم! هذا يهودي فتعال اقتله، فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكما عدلا وإماما مقسطا …}[34].
وبعد أن تستريح البلاد والعباد من نتن اليهود، يبدأ المسيح عليه الصلاة والسلام يطهر الأرض من الكفرة والكافرين، وذلك بأمر يسير خصَّ الله به عيسى عليه الصلاة والسلام وهو: (أن منحه الله تعالى ريحا طيبة زكية تنبعث من جسده الطاهر الشريف، تعم جميع أنحاء البلاد التي تقع تحت نظره عليه السلام ، فتكون تلك الريح الطيبة كالمبيد القاتل لكل خبث ورجس، فعندها لا يحل لكافر أن يجد ريحه إلا ومات. و
يبقى النصارى من أهل الكتاب، يكسر المسيح عليه السلام صليبهم، ويقتل خنزيرهم، ولا يقبل منهم إلا الإسلام أوالقتل، لا يقبل منهم جزية، مما يصل الحال إلى كثير منهم أن يدخلوا الإسلام مستسلمين، ومذعنين لله رب العالمين، ومن أصرَّ على عناده وكفره منهم، فعندها يصيبه ما أصاب إخوانه الكفرة والملحدين، من الموت المحتم لهم أجمعين، وهنا يتجلى قول الحق جلَّ وعلا في علاه:
) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلأ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [35]. ويدعم قولنا السابق؛ ما نطق به الفم الطاهر الطيب الزكي، فم الحبيب المصطفى r، والذي لا ينطق عن الهوى إن هوإلا وحي يوحى: {فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه} رواه أحمد والترمذي ومسلم عن الواس بن سمعان .
وجاء أيضاً: {فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام}[36].
قد يقول قائل: لماذا عيسى عليه الصلاة والسلام يكسر الصليب، ويضع الجزية أي لا يقبلها، وهذا الفعل لم يفعله النبي r؟! مما قد يصل الحال بالبعض أن يظن بعيسى عليه الصلاة والسلام أنه لا يحكم بشرع نبينا r، فما الصحيح في هذا؟ نرد عليه بقول الحافظ بن حجر رحمه الله بما أورده في كتابه العظيم (فتح الباري 10/250) قال في شرحه للحديث:
الذي جاء من قوله عليه الصلاة والسلام: (حكما) أي حاكما , والمعنى أنه ينزل حاكما بهذه الشريعة فإن هذه الشريعة باقية لا تنسخ , بل يكون عيسى حاكما من حكام هذه الأمة، وقوله: {فيكسر الصليب ويقتل الخنزير} أي يبطل دين النصرانية؛ بأن يكسر الصليب حقيقة، ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه, قوله: {ويضع الحرب}، في رواية الكشميهني (الجزية) , والمعنى أن الدين يصير واحدا فلا يبقى أحد من أهل الذمة يؤدى الجزية. وقال النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم:
قوله r: {ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب , ويقتل الخنزير , ويضع الجزية , ويفيض المال حتى لا يقبله أحد} أما {ليوشكن} ومعناه ليقرين. وقوله: {فيكم} أي في هذه الأمة وإن كان خطابا لبعضها ممن لا يدرك نزوله. وقوله r: {حكما} أي ينزل حاكما بهذه الشريعة لا ينزل برسالة مستقلة , وشريعة ناسخة , بل هوحاكم من حكام هذه الأمة. والمقسط العادل. وقوله r: {فيكسر الصليب} معناه يكسره حقيقة ويبطل ما يزعمه النصارى من تعظيمه، وفيه دليل على تغيير المنكرات وآلات الباطل , وقتل الخنزير من هذا القبيل. وأما قوله r: {ويضع الجزية} فالصواب في معناه أنه لا يقبلها، ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها، بل لا يقبل إلا الإسلام أوالقتل.
هكذا قاله الإمام أبوسليمان الخطابي وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى. وقال أيضاً رحمه الله أن الذي شرَّع بنسخه – أي الجزية - ليس عيسى عليه السلام ، بل نبينا r هوالمبين للنسخ. فإن عيسى يحكم بشرعنا، فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هوشرع نبينا محمد r.
- ولي مداخلة هنا لتبسيط المسألة وهي: أن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام هي قائمة بأمر الله تعالى إلى قيام الساعة، حيث لا نبي بعده، وأن هناك تشريعات شرعها رسول الله r من ضمن هذا التشريع العظيم الذي شرعه الله تعالى وأمر به نبيه r أن يبينه للناس، فإن منه من له زمانه وأسبابه، فمن أصاب ذلك الزمان أوتلك الأسباب، يتحقق عنده ذلك التشريع، وليس بمن يقوم بتحقيق هذا التشريع يكون هوالمشرع له، بل بالعكس يكون هوالمنفذ لما أمر به رسول الله r طاعة لله وللرسول، وإليك أخي المسلم بعض الأمثلة:
لما قاتل أبوبكر الصديق مانعي الزكاة، هل أتى بتشريع غير شرعة محمد r، علماً أن ذلك لم يكن في عهده r، وهوأن أحداً لم يمنع زكاة ماله فيأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام بقتله، ولكن بقتاله y لمانعي الزكاة حقق قوله عليه الصلاة والسلام وهو: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله} [37].
وكذلك ألم يشرع النبي r بقتال الخوارج علماً أنه عليه الصلاة والسلام لم يرهم بعد، فقد جاء عن علي t قال: سمعت رسول الله r يقول: {سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة} [38].
وكذلك عندما أمر عليه الصلاة والسلام بلعن الكاسيات العاريات، واللاتي لم يكن منهن واحدة في زمانه، فهذا تشريع لزمن ما سيظهر فيه هذا الذي أخبر عنه r، وقد ظهر هذا بزماننا والعياذ بالله من فتنة النساء، فقد جاء عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله r يقول: {يكون في آخر أمتي رجال يركبون على سرج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات} [39].
وجاء أيضاً عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله r: {ليأتين عليكم أمراء؛ يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا، ولا جابيا ولا خازنا} [40].
وكذلك أرشد رسول الله r أمته إلى تحديد أوقات الصلوات عندما يصبح اليوم كسنة، واليوم كالشهر، واليوم كالجمعة، وذلك في وقت خروج الدجال لعنه الله، وغير ذلك كثير من هذا القبيل من التشريع، فهذا كله من التشريع والذي شرعه الله تعالى في كتابه العزيز، أوسنه نبيه r، سواء كانت قولية، أوفعلية، أوإقرارية، وهذا الذي سيفعله عيسى عليه الصلاة والسلام من قتلٍ للخنزير، وكسرٍ للصليب، وهذا كله ما هوإلا عبارة عن سنة تشريعية، قولية وإقرارية، للحبيب المصطفى r تكون في زمانه عليه السلام .
فعند ذلك يتحقق قول الحبيب المصطفى r: كما جاء في الحديث: {ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أوذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر} [41]. أي يبلغ هذا الدين مشارق الأرض ومغاربها، عند ذلك يكون كما قال r: {وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم} أخرجه أبوداود عن أبي هريرة مرفوعا وقال الألباني صحيح، انظر الصحيحة 2182.
ويكون أيضاً {ولتذهبن الشحناء، والتباغض، والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد} [42]، وفي رواية: {ويضع الجزية ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض}، {حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها، وتكون الدعوة واحدة لرب العالمين} .
يتبين لنا مما سبق؛ أنَّ الله تعالى يمُنُّ على هذه الأمة في زمن المهدي وعيسى بن مريم عليه السلام أن الله يخلص الأرض من فساد الدجال واليهود.
وكذلك يُهْلِكُ الله تعالى في زمانهما جميع الملل إلا الإسلام.
ويبلغ هذا الإسلام العظيم مشارق الأرض ومغاربها.
وتصبح راية الإسلام مظللة على جميع أنحاء المعمورة.
وتكثر الخيرات، والبركات، ويكثر المال.
وترفع العداوة من بين الناس، حتى يصل الحال إلى الحيوانات، فتصبح المفترسة منها أليفة، والسَّامة منها لا تضر.
ويكثر المال حتى يفيض، وهنا يتحقق قول الحق جلَّ وعلا: ) وَلَوأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرض ([43]، ويتحقق قوله عليه الصلاة والسلام كما جاء في سلسة الأحاديث الصحيحة: {ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أوذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر}. أي سيبلغ هذا الدين بأمر الله ومشيئته وعونه الكرة الأرضية جمعاء، ما بلغ الليل والنهار، أي مطلع الشمس ومغربها، وهذا أيضاً مصداق قوله عليه الصلاة والسلام حيث قال: {إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض} [44].
يخبر هنا عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى زوى له الأرض، فأراه المشرق والمغرب، وهذا كناية عن رؤية الكرة الأرضية كلها، حيث لا يوجد مكان في الكرة الأرضية، إلا وعمه المشرق والمغرب، معنى ذلك أن ملك هذه الأمة سيعم الأرض كلها، كما ذكرنا آنفا.
ويبرهن على ذلك أيضاً هذا الحديث الذي جاء عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله r: {لا تذهب الدنيا حتى يملكَ العربَ رجلٌ من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي} [45].
وفي رواية له: {لولم يبق من الدنيا إلا يوم؛ لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني - أومن أهل بيتي - يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا}[46]. فقوله عليه الصلاة والسلام {يملأ الأرض قسطاً وعدلا}، أي تلك الأرض التي زويت له عليه الصلاة والسلام.
قد يقول قائل: كيف ستمتلأ الأرض قسطاً وعدلاً، وسيبلغ هذا الدين مشارقها ومغاربها، وهناك قوم مفسدون لا زالوا على ظهرها وهم قوم يأجوج ومأجوج؟
والرد عليه بأمر يسير: وهوأن الله تعالى جعل أمر يأجوج ومأجوج أمرا غيبيا، بل إن أحداً مهما علت رتبته سواء كانت دينية أودنيوية؛ لن يستطيع العثور على أولئك القوم، لأن الله تعالى مكَّن فقط لذي القرنين وهوالوحيد من خلقه سبحانه أن جعل له سلطانا عليهم، حيث قام بحبسهم، وذلك ببناء سور من معدن مكون من حديد ونحاس، فحال ذلك السور بينهم وبين باقي خلق الله، المقيمين في شتى أنحاء المعمورة، لكف شرهم وفسادهم عنهم، بهذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى عنهم في محكم تنزيله، حيث قال سبحانه: )حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً